القاهرة - العرب اليوم
تتمتع بعض المنحوتات بشكل مُبهر بسبب حداثة الشكل والتكنيك الفني، وبعضها الآخر يستمد قدرته على إبهار المتلقي من عمق الفكرة وجرأتها، لكن أمام أعمال النحّات المصري ناثان دوس، التي يضمّها معرضه الجديد المقام حاليًا في غاليري الزمالك للفن، ويستمر حتى 4 مارس /آذار المقبل يجد المتلقي نفسه منبهرًا للسببين معًا, فما إن يبدأ في تأمل شكل إحدى المنحوتات حتى يجد هذا الشكل قد أخذه بسلاسة إلى المعنى الكامن وراءه، الذي يعود به مرة أخرى إلى الشّكل، ليقف على روعة تفاصيله، وبراعة توظيفه لصالح المضمون، وهكذا يؤدي كلاهما إلى الآخر.
يزيد من الإحساس بذلك أنّه لا يمكن أن يرى التمثال بشكل كامل عبر نظرة واحدة سريعة، كأنّه يجبر العين على أن تتنقل بين أجزائه، لتكون بمثابة طبوغرافيا له ترصد علاقاته وتفاصيله داخل الكتلة نفسها، لكن لا يقف الأمر عند هذا الحد.
إقرأ أيضا .. روما تمنحك إمكانية الاستمتاع بأسلوب فريد في الحياة يخطف أنفاسك
و تظل البطولة في المنحوتات لـ"نفاذية الشكل"، فالمشاهد هنا ليس أمام تمثال معتم منغلق، إنّما هو متعدد الفراغات والنوافذ التي تسمح بمشاهدة الدّاخل أو الوجه الآخر منه، وهو ما حققه الفنان عبر تعظيم دور الفراغ في أعماله، حيث نجد احتفاءه الشّديد بالفراغ المحيط به وباشتباكه مع فراغ المكان حوله من جهة، ومن جهة أخرى اهتمامه بالفراغ داخل التمثال نفسه.
و نلتقي في أعماله أشخاصًا نحيلة الجسد، كأن الفراغ الخارجي يضغط على أبطاله، وقد ساعد الفنان على تحقيق هذه النفاذية ببراعة اختياره البرونز لجميع الأعمال في المعرض، وعددها 23 منحوتة باعتبارها مادة ثرية وخامة نبيلة، لها بريق المعدن، من الممكن تطويعها لهدفه على العكس من الحجر مثلًا.
ولا تحقق «نفاذية الشكل» -وهو العنوان الذي اختاره الفنان للمعرض- إثراء الرؤية البصرية وحدها، إنما تساعد على النفاذ إلى عمق المعنى, يقول الفنان ناثان دوس "معركتي مع التمثال انتهت، ولذلك لا أعارك في أعمالي تمثالًا، إنّما أعارك موضوعًا معاصرًا، ويضيف: لذلك أيضًا تماثيلي ليست قطعًا للديكور، إنّما هي وسيلة لإعادة صياغة تواصلنا مع العالم. ويتابع: «وما هذه الفراغات المحتشدة بعناية في المنحوتات على سبيل المثال، سوى نوافذ حقيقية على النفس البشرية»، لذلك وحسب رؤية دوس، كالتمثال ينبغي أن يكون الإنسان في الواقع، فنحن حين نتأمل منحوتاته المنفتحة، قد نحاكيها لنرفض نحن أيضًا التحول إلى مجرد نفوس وعقول منغلقة.
ويبدو أن ثمة احتفاء خاصًا بالحركة أيضًا في منحوتات دوس، وهو ليس احتفاءً بالحركة الجسدية بقدر ما هو تحريض على حراك للعقول من شأنه أن يحدد بوصلتها.
و نستطيع أن نفهم منحوتة «الآخر»، وهي عبارة عن تمثالين يشغيان بفراغات، تتّخذ في أحدهما شكل الحروف العربية وفي الآخر شكل الحروف اللاتينية في دلالة على الثقافتين العربية والغربية، حيث تجد حديثًا جادًا وإنصاتًا عميقًا.
و يظهر لنا بورتريه في تمثال باسم «الانقسام» , قسّمه الفنان إلى نصفين، كأن الشخص يعاني من الصراع بين الخير والشر، أو أفكار هدامة وأخرى بنّاءة، ليجسد حالة الإنسان حين يفشل في التحاور مع نفسه، وإمعانًا في تجسيد الحالة قام الفنان أيضًا بتقسيم قاعدته إلى جزأين، وكيف يكون له سند قوي ما دام لا يتحاور حتى مع نفسه!
و يأتي عمله الأكثر إبهارًا «الإبحار» الذي يجسد الإنسان حين يكتفي بالنظر إلى حلمه من دون أن يتخذ خطوات جادة لتنفيذه، فيبقى مكانه ويبقى الحلم برّاقًا ينتظر من يستحقه، ولذلك تجده يجسد الفكرة الإبداعية وهي تستند إلى خط ثابت هو المياه -حيث إن المياه ميزان لا يميل- في رمز للإبحار الفكري، بينما تتشابك مع شكل هندسي مائل، في دلالة على إمكانية تغير الأفكار وتطورها، وتبدو لامعة في مكانة عالية، بينما يجلس هو وسط مياه راكدة سكنتها طحالب الكسل والاستكانة.
قد يهمك أيضا ..