بغداد – نجلاء الطائي
بمناسبة الذكرى العشرين لرحيل شاعر العرب الكبير محمد مهدي الجواهري، نظم اتحاد الأدباء، في باحة مقره في ساحة الأندلس، احتفالًا بحضور حشد من الأدباء والمثقفين، ومدير عام دار الثقافة والنشر الكردية، والبداية كانت مع كلمة للشاعر عمر السراي، الناطق الإعلامي لاتحاد الأدباء، مرحباً بالضيوف من بغداد ومن جميع المحافظات، ثم ألقى إحدى قصائد الراحل الجواهري، فيما ألقى الشاعر محمد علي ياسين قصيدة بالمناسبة.
وقدمت خلال الحفل مجموعة من القصائد المغناة لشاعر العرب محمد مهدي الجواهري، شارك بها الفنان الشاب طلال علي، مع مجموعة من الأغنيات التراثية، ويذكر أن المناسبة أحياها عددًا من الأدباء العراقيين والعرب في الخارج، منها، الأمسية الاستذكارية منتدى الرافدين للثقافة والفنون في ولاية مشيجان.
ومرت قبل أيام الذكرى العشرون لشاعر العرب الجواهري، الذي "ملأ الدنيا وشغل الناس " محليًا وعربيًا وحتى عالميًا، وكما هو معروف فإن الجواهري، غادر العراق لآخر مرة، ومن دون عودة، في أوائل عام 1980، تجول في عدة دول، ولكن إقامته الدائمة كانت في دمشق، التي أمضى فيها بقية حياته حتى توفي عن عمر قارب المئة عام.
وظل الجواهري ظاهرة شعرية خالصة، لأنها استمرت حتى الآن في حضورها، ولأنها لاتزال تتردد على ألسنة الأجيال، حتى بعد مرور قرن على ولادته، وبعد مرور عشرين عامًا على رحيله، كانت قصائده قد أغنتنا والتي نرددها دون الحاجة لأوتار عازفة.
بيت المدى في شارع المتنبي يستذكر الشاعر محمد مهدي الجواهري بعد مرور 20 عامًا على رحيله، بحضور ثقافي مميز، خلال جلسة أقيمت صباح الجمعة في مقر بيت المدى في شارع المتنبي، قدّم الجلسة الشاعر عمر السراي ذاكرًا أن الجواهري لم يرحل، فهو باقٍ وعمال الطغاة قصار، ذاكرًا أنه "عاش مسبحة من الأعوام، وكم حاولنا أن نزيد من أطوالنا لنكون أقصر منه بكثير ولكن لم نستطع لأنه لا يمثل الشعر وحده بل يمثل الإنسانية والتاريخ والعراق كله."
وقد تجرنا شاعرية كلمات السراي، نحو شاعرية الجواهري، فيقول: "إن الجواهري يحمل بقلبه بريد غربته وبريد عودته، الذي يريح ركابه بين فينة وفينة لكي تندمل العثرات في وجهه، هذا هو الجواهري العراقي الذي كتب تاريخ الوطن حسبنا بأننا نؤرخ وجودنا ونؤرخ ثوراتنا وإنسانيتنا بقصائده، فحين نستذكر شيئًا نستذكر بيتًا له، يكفي حين نمر بالقرب من دجلة نستذكر "حييت سفحك"، يكفي أنه صنع مدن ألعاب للفقراء، فالشعر تسلية للفقراء، فاسمحوا لنا أن نطلب منه أن نبدأ الجلسة وأن يتصدر هو المشهد.."
وكانت الجلسة حافلة بأوراق أدباء وشعراء ومثقفين ونقاد، من بين الكلمات جاء حديث الأمين العام لاتحاد الأدباء الشاعر إبراهيم الخياط، مطالبًا بـ "الحديث سيكون عن مطلبين الأول والذي سنعيده للمرة الألف ولطالما رددناه في اتحادنا ولطالما نطق به إعلامنا أن تكون مقصورة الجواهري نشيدًا وطنيًا"، مشيرًا للمطلب الثاني قائلًا: "في اليومين الأخيرين سمعت من أكثر من كاتب أنهم يرغبون بنقل رفات الجواهري وهذا برأيي جرم كبير أن نطلب هذا المطلب، لأن نقل الرفات سيكون دفنًا لجرائم النظام السابق، نريد أن تبقى مقبرة الغرباء بما تضم من أجساد الكبار شاهدة على حقبة سوداء ولّت ولم تعد."
ويعد الاحتفاء بالجواهري ليس لأنه شاعر فحسب بل هو رمز وطني، إلا أن هنالك تساؤلات قد تكون نقدية سيسلط الناقد علي حسن الفواز الضوء عليها من خلال كلمته قائلًا: "ثمة سؤال مهم يمكن أن نفتتح به الحديث البعض يقول ما الذي تبقى من الجواهري بعد 20 عامًا من الرحيل وبعد قرن على ولادته، وأن القصيدة العربية صارت أشبه بالقطارات التي ترحل أبدًا، كيف يمكن ان يقرأ الجواهري هل الذاكرة تحتفظ به بوصفه أيقونة وطنية أو أيقونة شعرية، هذه الأسئلة تستدعينا بمستويات متعددة من القراءة، قراءة رمزية، وأخرى شعرية، الرمزية التي يمثلها منذ أن كتب الشعر بعد ثورة العشرين، وبعض قصائده كانت جزءً من هذه الشهادة على حدث سياسي واجتماعي وتاريخي، ومن يقرأ كتبه سيجدها مذيلة بتواريخ معينة ومناسبات معينة، أي أنه كان يقصد أن تكون القصيدة شاهدًا على الحدث أو استبطانًا واستلهامًا له، وهذا مايعطيها قيمة تاريخية وثقافية."
في جانب آخر، أوضح الفواز: "كما قد يكون البعض ممن يقرأ له يحاول البحث عن الجديد من الجواهري، لنجد أن واحدة من علامات التميز بشعره أنه ظل شاهدًا وشاعرًا متواصلًا، هذا التلاقي بين السياسي والشعري والإنساني عند الجواهري لم نجده عند أي شاعر عراقي آخر، رغم أهمية هؤلاء الشعراء في نقد الكثير من الظواهر الاجتماعية ورؤية الكثير من الأحداث وهوية القصيدة، لكن تظل قصيدة الجواهري أكثر تميزًا لما فيها من وعي عالٍ ونوع مما يمكن تسميته التلازم وارستقراطية القصيدة."
فيما يرى الكاتب نجاح هادي كبة: أن "السبب الذي جعل الجواهري شاعر القمة، هو سبب نفسي ففي علم النفس عدّ الشعر ذكاء، الدكتور نوري جعفر شخص أسباب أن يكون الشاعر بهذا المستوى كما فسر لماذا يكون النحات أو الموسيقي أو المجالات الفنية والفكرية والثقافية والعلمية الأخرى"، ذاكرًا أن المنطقة الحسية تجعل من الشخص شاعرًا.
وأضاف كبة "أننا لاننسى بيئة الجواهري التي نشأ بها وهو عالم ثانٍ جعله شاعر رمز، فبيئة النجف بيئة شعرية خاصة ومتقدمة، والجواهري ورث شاعريته عن جده الذي كان يرافقه في العديد من المجالس الثقافية في مدينة النجف."
واختلفت مداخلات الجلسة، إلا أن هنالك حكايات قد لا يعرفها البعض ولم يسمع بها آخرون عن الجواهري، فهناك الباحث رفعت عبد الرزاق يتحدث عن موقف جمع الجواهري وعلي الوردي خلال مهرجان المتنبي الذي أقيم عام 1977، قائلًا: " كان ضمن منهاج المهرجان قصيدة للجواهري وللشاعر محمد الفيتوري، وبعدها كلمة للوردي، وحين أنهى الشاعران قصيدتيهما وجاء دور الوردي في إلقاء كلمته قال، لقد سمعت قصيدتي الأساتذة وفهمت ما يريدان وأعتقد أن ليس لهما أي تأثير، الفيتوري لم يبدِ أي تعليق، بينما ضحك الجواهري ضحكة مجلجلة، بعدها تقدم الإعلامي رشيد الرماحي ليسأل الجواهري عن رأيه في كلمة الوردي ليقول إن الوردي يتحدث عن الشعب الأميركي لا العراقي."!
ذاكرة أخرى طرحها المؤرخ هادي الطائي بعد أن أخرج كيسًا أسود يحتوي على مجموعة صحف قديمة كتب فيها عن مهرجان المعرّي عام 1944، حين قدم خلاله الجواهري قصيدة، ذاكرًا أنها كانت "قصيدة لثورة الفكر وكانت تاريخًا يحدثنا بأن ألف مسيح دونها صلبًا"، مشيرًا لزيارة الجواهري لعبدالكريم قاسم حين تعرض لمحاولة اغتيال آنذاك."
أما من الناحية الفنية، فيشير الموسوي إلى أن "الجواهري تفوق على شعراء عصره، رغم أن أحمد شوقي أكثر شهرة ، لكن لو قارنا بين إبداع شوقي والجواهري تكون المقارنة، أن هناك قصيدة لشوقي يا جارة الوادي وهي معروفة للغزل، وقصيدة للجواهري بعنوان وادي العرائش، والمقارنة بين القصيدتين سترينا أن شوقي شاعر كبير ولكنه يواجه ضعفًا أمام شاعرية الجواهري."
وبشأن تساؤل الجمهور لماذا يأخذ الجواهري هذه المساحة من الحب، يذكر الموسوي قائلًا "لأنه يعبر عن أحاسيس الناس ولكن بفن، فيرفع من مستوى الجمهور إلى الأعلى، وحتى الجماهير الفلاحية تطرب بشعره، وقد ألقى قصائد مملحة ويصف بها عاملات المقهى، قائلًا "هذه الصحاف من الزبرجد رحن يحملن الصحافا..." هذه الحداثة واضحة في شعره .
ويرى الموسوي وكل من يتحدث عن شاعرية الجواهري أنه لم يقل قصيدة إلا معبرة بصدق عما يعتقد، مختتمًا كلمته قائلًا "هذا هو الجواهري وهذه حقيقته هو صادم ولا يريد أن يكون اعتياديًا، وهذه صفة الصدمة منذ شبابه، سواء أكان المصدوم فكرًا أو شخصية."