القاهرة - سعيد فرماوي
تدعم الشريعة الإسلامية كل تعامل اقتصادي يقوم على العدل وترفض وتدين المعاملات، التي تحتوي على ظلم أو تنتهي إلى تحقيق مصلحة طرف على حساب طرف آخر .
من هذا المنطلق الأخلاقي للمعاملات الإسلامية كان الرفض قاطعاً للاستغلال والاحتكار، وكان الشجب والإدانة لكل من يلجأ إلى وسيلة لتحقيق أرباح تلبي طموحاته وأطماعه على حساب مصلحة المجتمع الذي يعيش فيه .
وحرب الإسلام ضد المستغلين والمحتكرين تظل بلا هوادة حتى يختفي غلاء الأسعار بلا مبررات اقتصادية، ويختفي الاحتكار بوجهه القبيح من معاملات المسلمين ويحل محله الصدق والالتزام والشعور بالمسؤولية وعدم استغلال حاجة المستهلك والمنافسة الشريفة في السوق، وغير ذلك من قيم وأخلاقيات الإسلام التي يقوم عليها الفكر الاقتصادي الإسلامي .
المفكر الاقتصادي د . محمد عبدالحليم عمر أستاذ الاقتصاد الإسلامي بجامعة الأزهر يوضح موقف الإسلام من حرية السوق وفق ضوابط أخلاقية تجرم الاحتكار واستغلال حاجة المستهلكين، ويؤكد: السوق تحكمها عناصر أساسية تتمثل في كل من: البائعين والمشترين والسلع والأسعار، وعلى ضوء تلاقي رغبة البائعين في البيع والمشترين في الشراء تتم الصفقات ويتحرك الاقتصاد، وهذا التلاقي يتم حينما يجد البائعون والمشترون أن السعر مناسب لكل منهما .
ويضيف: إن للسعر أهميته في سير العمل بالسوق، والذي بقدر انتظامه ووجود العوامل التي تضمن تعبيره عن الحقيقة تكون السوق منتظمة وسليمة وقد اختلفت النظم الاقتصادية في كيفية تحقيق هذا الانتظام، ففي النظام الرأسمالي يترك الأمر لآلية السوق وما يسمى "باليد الخفية"، التي في مقدورها تصحيح أي اختلالات تحدث في السوق ومن دون تدخل من الحكومة بقوانين أو أجهزة رقابة، بينما النظام الشيوعي الذي انهار يرى أن انتظام السوق، وبالتالي الاقتصاد كله يقتضي التدخل الحكومي الكامل وقيام هذا التدخل مقام آلية السوق التي في رأيهم تعمل لصالح البائعين الرأسماليين وضد مصالح المشترين .
ولقد أثبت الواقع عدم صحة ما ذهب إليه كلا النظامين فلقد انهار النظام الشيوعي بقيوده الحكومية المكبلة لرغبة الناس في إنتاج وبيع ما يريدونه، ورغبتهم في شراء ما يحتاجونه وبالسعر الذي يرتضونه، أما النظام الرأسمالي والذي يسود الآن في ظل العولمة فلقد ظهر فيه وهم اليد الخفية وفشل آلية السوق المزعومة في انتظام السوق وضبط الأسعار، الأمر الذي دفع الدول الرأسمالية إلى إصدار العديد من القوانين والتشريعات المناهضة للممارسات الاحتكارية، وتعمل هذه التشريعات على ضبط الأسواق ومنع الممارسات الاحتكارية التي تؤدي إلى رفع الأسعار لصالح المحتكرين وعلى حساب مصلحة المستهلكين، وبالتالي خرجت هذه الدول عن فلسفة النظام الرأسمالي الذي يقوم على الحرية الكاملة أو المنفلتة، إلى الحرية المنضبطة بقيود قانونية منظمة للتعامل في السوق وكلها تسعى لضبط الأسعار باعتبارها العنصر الأهم في الأسواق .
ويؤكد د . عمر أن عدالة الأسعار أمر ضروري لانتظام الأسواق ورعاية مصالح الطرف الأضعف وهم المشترون، وإن عدم تحقيق هذه العدالة له عواقب وخيمة اجتماعية واقتصادية، فرفع الأسعار يؤدي إلى حرمان ذوي الدخل المحدود والفقراء من إمكانية إشباع حاجاتهم، ما يؤدي إلى زيادة بؤسهم وحقدهم على الأغنياء والمحتكرين الأمر الذي يضعف التماسك الاجتماعي بوصفه ضمانة للأمن والحياة الرغدة للجميع، فضلاً عن عدم تحقيق العدالة الاجتماعية بصفتها الهدف الثاني للاقتصاد مع الهدف الأول وهو تحقيق الكفاية، وبالضرورة فإن خروج هذه الفئات من السوق وعددها كبير في كل دولة يؤدي إلى تقليل الطلب في الأسواق، والذي ينعكس سلباً على الإنتاج، وما ينتج عن ذلك من البطالة ويدخل الاقتصاد في دائرة خبيثة من الركود .
ومن هنا تظهر عظمة الإسلام حيث اتخذ موقفاً أصيلاً متميزاً من مسألة الأسواق والأسعار يمكن وصفه بالحرية المنضبطة، فالأصل هو حرية الناس في البيع والشراء برضاهم كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنما البيع عن تراض"، ولكن هذا التراضي مشروط ببعض الضوابط الشرعية والأخلاقية منها ألا توجد ممارسات تؤدي إلى ظلم أحد الطرفين، ومنها الممارسات غير الأمينة المتصلة برفع الأسعار، ومن المعروف أن المنهاج الإسلامي في ترشيده للسلوك الإنساني يربط في تلاحم عضوي بين القواعد الشرعية والقواعد الأخلاقية، وعملية تحديد الأسعار العادلة تستند إلى بعض القواعد الشرعية مثل تحريم الاحتكار، إلى جانب القواعد الأخلاقية المستندة إلى قيم الصدق والعدالة والسماحة والإحسان والرحمة وهي ضرورية للالتزام بالسعر العادل، لأنه في حالة الاقتصار على القواعد القانونية وأجهزة الرقابة البشرية يمكن لبعض الناس الخروج عليها والإفلات منها بممارسات تتم في السر، ولا يبقى سوى الضمير والالتزام الذاتي، والذي لا يمكن إيجاده إلا بالتمسك بالأخلاق الفاضلة التي تقف وراء الالتزام بها رقابة الله عز وجل الذي لا تخفى عليه خافية والعقوبات القدرية التي يوقعها سبحانه وتعالى على المخالفين في أنفسهم وأموالهم .
ويتدخل مدير مركز الاقتصاد الإسلامي في جامعة الأزهرد . يوسف إبراهيم ليوضح أن الإسلام وهو يحرم ويجرم الاحتكار ويمنع الاتفاقات التي تقود إليه قد احتاط للأمر، وبنى المجتمع على أسس معينة ومبادئ خاصة من شأنها إذا وجدت، أن تحول دون التمكن من السيطرة على الأسعار، ومن هذه المبادئ ما قرره من وجوب نشر العلم والمعرفة، إذ الانفراد بالمعرفة هو أهم ما يؤدي إلى الاحتكار، ومنها تكليفه الدولة بإلزام الناس بتطبيق مبادئ الشريعة، ومنها نشر الموقف الإسلامي من الحياة، ودور الإنسان في هذه الدنيا، فظهور الاحتكار في البيئة المسلمة، أمر يناقض الإسلام، ويعبر عن عدم سيطرة قيمه، ويدل على عدم معرفة الناس بهذا الدين الكريم، ولذلك يكون من أهم ما يتخذ لمنع ظهور الاحتكار أن نقوم بنشر الموقف الإسلامي من الحياة التي نحياها، وبيان دور الإنسان فيها وتوضيح الأهداف التي تستحق أن يسعى إليها الإنسان في هذه الدنيا . ذلك أن المحتكر لا يرتكب جريمة الاحتكار إلا عندما يغفل عن حقيقة الحياة، ويجهل دوره المطلوب فيها، حيث يستغل حاجة الناس لزيادة أرباحه الملوثة .
وعدالة الموقف الإسلامي من قضية الأسعار تبدو بوضوح - كما يقول د . عمر- من خلال النقاط التالية:
* الإسلام له فضل السبق في تحريم الاحتكار بكل صوره التي قال بها الاقتصاديون فيما بعد، سواء صورة الاحتكار الكامل عن طريق قيام شخص واحد بإنتاج وبيع سلعة ليس لها بديل وله قدرة على منع الغير من دخول سوقها، أو احتكار القلة الذي يتم بالاتفاق بين مجموعة قليلة من المنتجين لسلعة ما مثل حديد التسليح أو الأسمنت على التحكم في سعرها لصالحهم، وهو ما يعرف في الفقه الإسلامي بالتواطؤ، أو الاتفاق على تقسيم السوق فيما بينهم جغرافياً أو سلعياً، إلى غير ذلك من الممارسات الاحتكارية التي تهدف لرفع الأسعار والخروج بها عن الأسعار العادلة، فجميعها محرمة في الإسلام ويتعرض القائمون بها لغضب الله سبحانه وتعالى، بجانب العقوبة الشرعية التي يطبقها ولي الأمر عليهم بإجبارهم على بيع السلع المحتكرة بسعر المثل .
وحكمة تحريم الإسلام للممارسات الاحتكارية كما يقول د . عمر واضحة حيث تدخل في باب الظلم وتؤدي إلى اقتضاء البائع ثمناً أكثر من الثمن العادل وكسب المستغلين لحاجة الناس سيعود عليهم سوءاً . ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حق المحتكر: "من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالإفلاس أو بجذام" .
* عدالة الإسلام كما تحمي المشترين من الممارسات الاحتكارية التي تؤدي إلى رفع الأسعار عليهم، تحمي البائعين من بخس حقهم في ثمن عادل يحقق لهم ربحاً، والله عز وجل نهى عن البخس في قوله تعالى: "ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين" . ومن البيوع المنهي عنها شرعاً بيع الإكراه الذي يضطر فيه البائع إلى البيع، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم "عن بيع المضطر" ويدخل في ذلك تواطؤ المشترين على الشراء بسعر أقل من السعر العادل بما يضر بالبائع .
* قرر الإسلام على لسان رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم عقوبة مؤلمة لكل من يغلي الأسعار بأي أسلوب، وذلك في الحديث الشريف: "من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليها عليهم فإن حقاً على الله تبارك وتعالى أن يقعده بعظم من النار يوم القيامة" .
* راعت الشريعة التفرقة بين الارتفاع الطبيعي للأسعار الناتج عن التغيرات في ظروف العرض والطلب من دون تدخل فيهما، وبين الارتفاع الناتج عن الممارسات الاحتكارية، وفي ضوء ذلك يمكن فهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي امتنع فيه عن التسعير حسبما جاء "غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" فقالوا: يا رسول الله سعر لنا، فقال: "إن الله هو المسعر القابض الباسط الرزاق وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال" .
فهذا الامتناع - كما يوضح د . عمر لأن الغلاء لم يكن نتيجة ممارسات احتكارية ولكن للتغيرات في ظروف العرض والطلب .
من الممارسات المنهي عنها شرعاً وتتصل بالأسعار بيع الصنف نفسه من السلع بسعرين، سعر عادي للمماكسين أي الذين لديهم قدرة على المساومة وخبرة في الشراء، وسعر أعلى للمسترسل أي الشخص غير الخبير بالشراء الذي يمكن خداعه، وهذا ما يعرف في الفكر الاقتصادي المعاصر التمييز السعري، وهو غير جائز شرعاً .
من الممارسات الضارة بالأسعار ما يعرف في الفكر الاقتصادي المعاصر "بالإغراق أو التسعير الضاري"، والذي يتلخص في قيام مؤسسة ببيع السلعة بسعر أقل بكثير من أسعار السوق وبأقل من التكلفة من أجل إخراج المنافسين من السوق لعدم قدرتهم على مجاراتها بتخفيض الأسعار، وبعد أن تتخلص منهم ويخرجوا من السوق تعود وترفع أسعارها إلى مستوى أعلى مما كانت تبيع به وتحتكر سوق السلعة، وهذه الممارسة غير جائزة شرعاً .