بغداد – نجلاء الطائي
في محيط المئذنة الملوية، المعلم الأثري الأبرز في مدينة سامراء التابعة لمحافظة صلاح الدين، تبدو الحياة هادئة وطبيعية، عناصر الأمن ينتشرون في الشوارع ويحكمون سيطرتهم على الأمور.
وعلى بعض الطرق المؤدية الى المدينة، قد يصدف وجود أسرة نازحة يرفع أفرادها راية بيضاء لبعث إشارة بأنهم مدنيون، وفي هكذا حالات يبادر عناصر الأمن أو الحشد الشعبي الى نقل الأسرة بسياراتهم الى داخل المدينة لتنعم بأمانها.
المئذنة الملوية في مدينة سامراء العراقية تُعد واحدة من أهم المعالم المعمارية الأثرية التي تمثل إبداع العمارة الإسلامية العربية في العراق، واكتسبت أهميتها التاريخية بفضل أسلوبها المعماري الفريد الذي لم يسبق أن بُني مثله في أي مكان في العالم.
وتم بناء المئذنة على شكل أسطواني حلزوني من الطابوق الفخاري الذي يمتاز به العراق، لتكون مئذنة لأكبر المساجد في العالم الإسلامي في ذلك الوقت، وقد أمر الخليفة العباسي المتوكل على الله، في عام 237 هجريا، ببناء مسجد يكون الأكبر والأجمل في العالم الإسلامي.
يبلغ ارتفاع المئذنة الحلزونية 52 مترًا، وهي مقامة على قاعدة مربعة مكونة من مربعين اثنين؛ الأول بارتفاع 3 أمتار، والمربع الثاني بارتفاع 120 سم، وطول الضلع الواحد من أضلاع المربع الأول 33 مترا، أما أضلاع المربع الثاني فهي أصغر قليلاً، ويعلو فوق المربعين بناء أسطواني مكون من 5 طبقات تتناقص سعتها تدريجيًا بارتفاع البناء، يحيط بطبقاتها الخمس درج حلزوني بعرض مترين يلتف حول بدن المئذنة بعكس اتجاه عقارب الساعة وكأنها على عناد وتحدٍّ مع الزمن.
ويبلغ عدد درجات السلم 399 درجة، وعند أعلى قمة المئذنة بنيت طبقة على شكل دائري لها 7 نوافذ يطلق عليها أهل مدينة سامراء "الجاون"، وهو المكان الذي يرتقيه المؤذن ويرفع منه الأذان للصلاة. ويتحدث أجدادنا أنهم رأوا بقايا أعمدة من الخشب على قمة الملوية المسماة بالجاون، ويقال إنها سقيفة يستظل بها المؤذن، وإن هناك أيضا درابزين من الخشب يمسك به الصاعد، ومن الجدير بالذكر أن الناس كانوا يعتمدون حين ذاك على رؤية المؤذن على قمة الملوية نهارًا، وعلى فانوسه الذي يحمله معه عند الصعود لقمة المئذنة ليلاً، لتحديد أوقات الصلاة. حيث يتعذر وصول الصوت إلى مسافات بعيدة في المدينة.
وراعى البناؤون في ذلك الوقت اتجاه المسجد نحو القبلة بشكل دقيق ومذهل، مما يعكس صورة مشرقة عن التقدم العلمي الذي كان عليه المسلمون آنذاك.
وبسبب جمالية هذه المئذنة التي لا يوجد شبيه لها في أي مكان في العالم، وجمالية بناء المسجد الأكبر في العالم الإسلامي أطلق على المدينة اسم «سُرَّ من رأى» اختُصر فيما بعد إلى سامراء بعد أن كان اسمها "المعسكر".
لم تدم سامراء التي بناها الخليفة العباسي المعتصم بالله عام 836 ميلاديا كحاضرة عباسية أكثر من 150 عاما حكم بها 8 خلفاء من العباسيين، وهم "المعتصم بالله، والمنتصر بالله، والواثق بالله، والمتوكل على الله، والمستعين بالله، والمعتز بالله، والمهتدي بالله، والمعتمد". والأخير هجرها، فهي مدينة كانت عاصمة للدولة العباسية، بنيت ونَمَت بسرعة.. وانتهت سريعا أيضا. من أهم ما وصل إلينا من سامراء اليوم المنارة الملوية.. فكانت أبرز شواهد سامراء المعمارية، بل أحد أهم إبداعات العمارة العراقية التاريخية.
صممت ملوية سامراء وكأنها تدور من الأسفل إلى الأعلى، عكس اتجاه عقارب الساعة. وتفصح عن سر حفظها من الفناء. فمَنْ يرتقي طريقها الشاهق، ويدقق في أحجارها وهيئتها يجدها خارج الزمن بالفعل، وكأنها شيدت بالأمس القريب.
وعرفت "سامراء"، التي تقع شرق نهر دجلة ضمن الحدود الإدارية لمحافظة صلاح الدين، بجوها المعتدل، فلا عجب أن تكون واحدة من الأهداف السياحية للبغداديين وغيرهم من أبناء المدن العراقية، حيث كان يصل إليها الآلاف من الزوار والرحلات المدرسية والجامعية.
وكانت النساء غير المتزوجات أو اللواتي لا يلدن، أو يلدن إناثا فقط أو أي امرأة لها أمنية وتريد تحقيقها ترتقي الدرب إلى قمة المئذنة الملوية وتلقي من القمة (الجون) عباءتها (العباءة النسائية العراقية التقليدية السوداء)، إلى الأرض، فإذا وصلت الأرض مفروشة ومفتوحة فهذا دليل خير، وإذا نزلت مكورة، فهذا يعني أن أمنيتها لن تتحقق.
وحظيت منارة الملوية ومدينة سامراء باهتمام جميع الحكومات المتعاقبة في الدولة العراقية، حتى أصبحت مسجلة ضمن المدن والشواخص الأثرية في منظمة اليونيسكو العالمية، وكانت مقصدا للزائرين من كل بقاع العالم إلى حين ما أصابها من إهمال وتخريب بعد الغزو الأميركي للعراق، حيث أصبحت منطقة نزاع بين القوات الأميركية المحتلة التي اتخذت من المنارة والمسجد الأثري قاعدة عسكرية، ونتيجة المعارك المستمرة تعرضت القبّة العليا للمئذنة للتفجير، مما ألحق أضرار بجزئها العلوي.
وبعد انسحاب القوات الأميركية من العراق، لم تأخذ المنارة التاريخية فرصتها من الاهتمام والإعمار، بعد ذلك تعرضت المنطقة إلى تهديد آخر من قبل مسلحي "داعش"، الذين سيطروا على أجزاء واسعة من مدن صلاح الدين وبعض المناطق القريبة من الملوية، لتشهد المنطقة مرة أخرى نزاعات مسلحة. وبلغ السجال أشدّه بين مؤيدين لرفع رايات الحشد الشعبي في أعلى قمة ملوية سامراء وتأزير المئذنة بقماش أسود يمتد من أسفلها إلى أعلاها، ومعارضين لهذا المشروع باعتباره سلوكا "طائفياً" وإهانة لأهل "السنة" على حد قولهم، وكان أفراد من فصائل الحشد الشعبي، رفعوا الراية فوق المئذنة الملوية، بعد معارك خاضوها مع مسلحي تنظيم داعش.
لم تعد "سُرَّ من رأى" على ما كانت عليه أيام زهوها وهي تحتضن القادمين على سلالمها الحلزونية، بل أصبحت بنظر الكثيرين اليوم "ساء من رأى"
وكيل وزير السياحة والآثار لشؤون الآثار والتراث قيس حسين رشيد قال إن "الأعمال العسكرية المتمثلة بالاحتلال الأميركي ووجود قواتهم سابقا في محيط وداخل منطقة الملوية كانت سببًا رئيسيًا في عدم التمكن من صيانة هذا الصرح بشكل مستمر، وبعد خروج الأميركيين لم تهدأ المنطقة على الإطلاق، خصوصًا بعد الهجمات الشرسة لمسلحي (داعش) على المحافظات العراقية، ومنها محافظة صلاح الدين وقضاء سامراء".
وأضاف رشيد: "أما بخصوص أعمال الصيانة، فهناك مشروع ضخم جدا نعمل به بالتعاون مع محافظة صلاح الدين ومنظمة اليونيسكو، حيث ستقوم شركات عالمية مختصة بإعمار الملوية والمسجد، وقد شكلت لجنة برئاسة وإشراف محافظ صلاح الدين وعضوية هيئة من الوقف السني ولجنة مختصة من هيئة الآثار والتراث من أجل إتمام وإنجاز هذا المشروع، وقد خصصت مبالغ هائلة له، ستُضاف إلى المبالغ التي جمعتها الحكومة العراقية من المواطنين منذ سنين، حيث شرعت الحكومة العراقية باستيفاء مبالغ جباية يدفعها المواطن بوصل في كل الدوائر الحكومية التي يقصدها لإنجاز معاملة ما، في حملة جمع أموال أطلق عليها (إعمار الملوية) وقد بدأت هذه الحملة في ثمانينات القرن الماضي بعهد حكومة صدام حسين وإلى وقتنا الحاضر، ووصلت المبالغ إلى أرقام كبيرة، وسنباشر بالمشروع الكبير لإعمار الملوية والمسجد بوقت قريب جدًا لتكون معلما سياحيا مهما، إضافة لكونه معلمًا تاريخيًا وإرثًا نفتخر به".
فيما قالت عضو مجلس صلاح الدين عن مدينة سامراء كفاء فرحان ان "مجلس المحافظة قرر بالأجماع توقف اعمال الصيانة الجارية على جامع وماذنة الملوية في سامراء بعد وصول كتاب الى رئاسة الوزراء من منظمة اليونسكو العالمية يهدد بإخراج جامع الملوية من قائمة التراث العالمي ".
وبينت السامرائي ان "العمل الذي يجرى الان في ملوية سامراء لا يخضع للمواصفات العالمية في منظمة التي تتبعها
واضافت ان " الجهة الوحيدة المشرفة على اعمال الصيانة هي دائرة اثار سامراء ،والتي احيلت اعمال الصيانة اليها بمبلغ 14 مليار دينار عراقي من مجلس اعمار المحافظة ".
وتابعت ان "الحكومة المحلية بانتظار التباحث مع اليوسنكو ووصول خبير ايطالي الجنسية لمعرفة كيفية تلافي عدم اخراج الملوية من قائمة الاثار العالمية"، مشددة بالقول ان "قرار ايقاف اعمال الصيانة يصب في مصلحة الاثار العراقية ، لتلافي تكرار ما حصل في اعمال صيانة المرقدين العسكريين ، لا سيما ترميم القبة والمرقد ،والتي خرجت بها الشركة المنفذة عم مقاييس اليونسكو ، وخسرت المحافظة ادراج هذا الصرح الديني وآثاري في قوائم اليونسكو".
مدير اثار سامراء عمر عبد الرزاق قال ان "اعمال الصيانة كانت تحت اشراف فنين ومهندسين متخصصين ".
واضاف ان "اعمال الصيانة جرت على جسم الملوية وجامعها الملاصق اضافة الى اماكن استراحة للسياح"، معربا عن استغرابه من اعتراضات اليونسكو ".
المؤرخ ابراهيم الكوزر قال ان "اعمال الصيانة في المناطق الآثارية يجب ان تجرى بحرفية كاملة ،وان تعتمد على جهات وشركات مختصة وحرفيين من ذوي الخبرة والدراية بنوعية الفخار والجص ومواد البناء التي استخدمت في بناء الموقع الآثاري ، لانها ليس كاية مقاولة صيانة اخرى ".
وتابع المؤرخ العراقي ان "حضارة وادي الرافدين سبق وان تعرضت الى اخطاء مماثلة خلال اعادة اعمار اثار بابل في التسعينيات من القرن الماضي ،وكانت نتيجة تلك الاخطاء ان اخرجت المنظمة العالمية اثار بابل من قائمتها.
ودعا الكوزر الى تنسيق الجهود بين المؤسسات المسؤولة عن الاثار العراقية واليونسكو لاجراء اعمال الصيانة في المواقع المختلفة .
وكانت منظمة اليونسكو قد طالبت الحكومة العراقية بكتاب رسمي الى ضرورة التوقف عن اعمال الصيانة الجارية في الملوية تجنبا لاخراجها من القائمة العالمية .
وعللت المنظمة طلبها بان " اعمال الصيانة لا تجري وفق المعايير العالمية المعتمدة في ترميم المواقع الاثرية ".